الاثنين، سبتمبر ٠٧، ٢٠٠٩

10910 ملاكي الجيزة

الرابعة بعد الظهر
على كوبري السادس من اكتوبر ... بعد يوم طويل امضيته في التوكيل للصيانة الدورية لسيارتي الصغيرة وبعد قضاء حوائج ٍ أخرى ( بالمرة ) من قاهرة المعز.
الزحام على الذاهب فوق الكوبري يفوق الوصف والسيارت _ الفاخرة غالبا _ لا تكاد تتحرك ، في حين يبدو الاتجاه المعاكس في وضع تدفق مغري بالصبر!
فرصة جيدة أنتهزها لممارسة التأمل لكل من حولي ،وفي الأسفار أذكركم بمتعتي :)
سيارتي الجديدة تبدو مثلي _عادية جدا _وسط كم من السيارات الفارهة شكلا وموضوعا مما يضع خطا اضافيا في لوحة التناقضات المصرية العجيبة .
أبتسم وانا اتخيل حياةً خلف كل زجاج يعاني على جانبين يتضادين بحدة درجة حرارة الشمس ونعومة برودة التكييفات
يا للزجاج المسكين !

في منتصف الجمع المتحفز لبعض سنتيميترات للأمام .... سيارة خيالية ( طبعا معرفش ماركتها ) مكشوفة يقودها فتى شديد الوسامة وبجواره حسناء تستحق الحسد ، يتضاحكان بفرحة لا حد لها وكأنهما خرجا لتوهما من فيلم عربي قديم على مشهد النهاية للبطل والبطلة اللذان ستجمعها الجنة بلا هموم الى الأبد .

على جانبي السيارة تراقب العيون مثلي هذه اللوحة الهابطة من الفضاء بجماليات لا تخصنا ! يتوقف الشاب عن الضحك متحولا لفتى من بائعي علب المناديل معتذرا بهدوء عن قبول عرضه المتوسل لشراء علبة ( مناديل يا بيه ) ، رغم انه أقسم عليه بغلاوة ( السنيورة ) عدة مرات.
يتأفف الصبي تاركا اياه الى سيارة أخرى متوسلا لبضاعته متسولا خلفها .

أتامل الصبي
في السادسة عشر تقريبا ، رث الثياب لدرجة لا توصف ... يتصبب العرق من جبينه بغزارة فلا يحمل الا لونا اسودا لا تسطيع ان تميزه إلا بعد مغادرته لبشرته الكالحة ...
ابتلع ريقا بصعوبة فأين ما يعانيه الزجاج الى ما يعانيه هذا الكائن الانساني الذي لا يشبه أحدا فوق هذه الكوبري الذي لا يشبهه حالا احد ممن فوقه في هذه الساعة الجهنمية من صيف أغسطس الحارق.
...راقبته يطوف بالسيارات فلا يشتري منه أحد ... أشعر بغليانه على وجهه واتحدث لنفسي : ليس سوى بشر في النهاية !!

على بعد سيارتين مني يتوقف الصبي أمام سيارة تضم أربعة من الشباب فوق العشريني ... يدق بيديه على الزجاج فلا يجيبه احد ... يعاود الدق فيشيحون له بعصبية .... ينتقل من نافذة لنافذة متوسلا بحدة الناقم على هذا الرفض المتكرر، فلا يجد الا مزيدا من صد الشباب ورفضه لبضاعته ، لا ينتقل _ طبيعيا _ لبذل محاولة أخرى مع ركاب سيارة أخرى ... وكأن كيلا قد فاض به .... أو كأنه يرى وجهه في مرآة أخرى لشباب لن يكون مثلهم أبدا.

تتصاعد خبطاته وتتصاعد أصواتهم الرافضة..يهم لتركهم اخيرا بعد ان منحهم لفظا نابيا !!

سمعوه ... كما سمعته وسمعه الكثيرين ...
وفجأة ينزل الأربعة من السيارة مكيلين له ألفاظا مستنكرة لتجرئه " الحقير" عليهم ... يعلوا صوت الفتى بالمزيد من الألفاظ وهو يحاول الابتعاد عنهم حين يمسكه أحدهم ، ثم يطوقونه وهو يقاوم بشيء من الهيستيرية مكيلا لهم لكمات ضعيفة غير موجهة مصاحبة لقاموس من الشتائم المبتكرة !

وتتفوق الكثرة عليه ، اذ ينهال عليه الأربعة بضربات متواصلة في كل أجزاء جسده حتى يسيل الدم من وجهه مختلطا بصرخات صارت باكية مستنجدة بكل حاضري المشهد العنيف _ وانا منهم _ والذي لم يتحرك أحدهم !!

يواصلون ضربه ... ويحاول هو لملمة بضاعته وهو يهرب ... فاذا بأحدهم يخطف بحدة علبة من المناديل من يده ويطوحها بعيدا بأقصى قوته ... ويتفق الأربعة على نفس التصرف فجأة ، ونراقب جميعا علب المناديل وهي تتطاير تباعا الى حتفها تحت عجلات السيارات المتدفقة عكسيا بجوارنا .... !
والآن يتحرك الصبي ناحيتي بصعوبة وهو يبكي وينتحب ، يدير وجهه وصراخه بين الشباب المُصر على مواصلة انتقامه بالمزيد من التهديد والوعيد وبين بضاعته الضائعة ... وبين عيوننا !!!
وفجأة ومن خلف سيارتي يمينا بثلاث سيارات ... ينزل من سيارة كبيرة _ مزينة لعروس _ ولا تُقل غيره، رجل أربعيني شديد الأناقة يتحرك بسرعة ناحية الشباب المتهمر على الصبي لمواصلة المذبحة ، ويطلب منهم بهدوء حاسم ان يعودوا الى سيارتهم .... يتراجع صراخهم قليلا مع الحسم الممزوج بالأدب الجم من الرجل ، والذي ما ان يطمئن الى عودتهم _ أخيرا _ لسيارتهم ، حتى يتحرك بخطى أجزم انها حانية ...ناحية الصبي الذي يكاد يكون قريبا لمتر من سيارتي ... يقترب منه ... يمسكه بقوة من كتفه ... وينظر الى المناديل المتطايرة بعيدا ثم يقول له بقوة وهو يهزه من كتفه :" اسكت بقا ممكن "
وسكت الصبي أخيرا الا من دموعه ....ينظر الرجل حوله ويخرج بشيء من المداراة ورقة من فئة الخمسين جنيها ويضم يد الصبي عليها وهو يقول له بابتسامة :"خد ... اشتري غيرهم ....وروح روَّح "
ويعود مسرعا لسيارته بعد أن بدأ الركب يتحرك شيئا فشيئا ... تعلقت عيني به وهو يخترق الطريق مبتعدا فلم أستطع سوى قراءة رقم سيارته الفضية

ذهب
وبقيت أنا أستشعر جملة من المشاعر المتضاربة ....
الألم الشديد على عجز صبي ربته الشوارع وطـَعـِمَ من الفقر والجوع حتى امتلأ حقدا !
وفاقد الشيء لا يعطيه ، فماذا كان ينتظر هؤلاء الشباب من فاقد كل شيء أن يعطيهم سوى ما اعطته الحياة من قسوتها ونبذها ؟؟
ترى كيف سيكون هذا الصبي يوما والى أين ستقوده نقمته ؟
بل وأين سيكون هؤلاء الشباب بجمود قلوبهم وفردية ردة فعلهم العنيفة ؟
بل أين سنكون نحن بكل استسلامنا لكل هذه الوقائع اليومية المخيفة .؟...
وكيف نحن امام عيني الخالق القادر على انزال نقمته علينا جميعا بوزر متمثل في صبي كهذا ؟؟
أم تراه يمهلنا ،ويمهلنا فقط .... لأجل فعل رجل تحرك_ كانسان فقط _ حين تكتف الجميع في عجزهم الغير مبرر
ورأف بإنسانية مقهورة !!